Tuesday, January 17, 2012

أوغلو: دعوة "الآخر" إلى الاستسلام


أوغلو: دعوة "الآخر" إلى الاستسلام


إبراهيم الأمين

يتصرف وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو بطريقة توحي بثقته التامّة بمآلات الأزمة السورية. فيما هو، فعلياً، مهتم بأمور أخرى. لا ينظر الرجل الى المرحلة العربية الراهنة على أنها مرحلة تبدل سياسي فحسب، بل يهتم أيضاً بأن يشرح، لمن يهمه الأمر، أن ما يجري في العالم العربي، الآن، هو نهوض للجماعة الإسلامية الأقرب الى عقله، والى فكرة الدولة الإسلامية التاريخية. ويسعى الى إضفاء صورة عصرية على الحركات الإسلامية الجديدة، من خلال تمييزها عن تلك الجهادية التي قامت خلال العقود الأخيرة، والتي تعارضها جماعة الإخوان المسلمين في تركيا.
في مصر ودول المغرب العربي، يتصرف الوزير التركي وكأنّ النفوذ السياسي لبعض الحكومات العربية والغربية أمر عابر يرتبط بلحظة الثورة، ولا علاقة له بالأساس النظري والعقائدي. وهو، هنا، لا يبدي خشية حقيقية من الدور الخليجي، ولا يفرّق كثيراً بين الحركتين القطرية والسعودية، وينتبه الى تمايز سببه تنافس سياسي، لكنه يرى في الفريقين وجهاً واحداً لنظرية سياسية ــــ فكرية تعارضها تركيا، كما الإخوان المسلمون. وهو يخشى، بعض الشيء، من ذهاب السعودية وقطر، ومعهما جماعات نافذة في الكويت والإمارات العربية، نحو مغامرة تبنّي الجماعات السلفية، التي تفتقد، بحسب الإخوان، أساساً نظرياً قوياً يمكّنها من قيادة العالم الإسلامي.
وفق هذا المنظور، يتصرف أوغلو على أساس أن الوضع في سوريا مقبل على تغيير، الآن أو بعد سنة أو بعد سنوات قليلة، وعلى أساس أن النظام في دمشق آيل الى السقوط لا محالة. طبعاً، يحاول المنظّر التركي رفع معنويات أنصاره والجهات المستعجلة سقوط النظام في سوريا، لكنه يريد من هذه الجماعات أن تقف في صف انتظار تغييرات ستعصف بالمنطقة ككل، مع رغبته في حث الجميع على انضواء طوعي في فكرته الإقليمية التي تقوم على أن الغالبية الإسلامية السنية مستعدة الآن، وهي في مرحلة النمو، لعقد تسوية مع الأقلية الشيعية القوية في الإقليم. وهو يجهد لأن تكون الصفقة مع إيران أساساً، لتُمكّنه من التعامل بهدوء مع سوريا ولبنان وفلسطين.
المسألة، هنا، تتجاوز الكلام عن الوقائع السياسية المباشرة. صحيح أن تركيا تأمل وتسعى وتعمل، سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وإعلامياً، على إسقاط حكم الرئيس بشار الأسد، إلا أنها تعرف جيداً أن الوقائع على الأرض لا تتصل بالرغبات فقط.
وبما أن الرائج أن أوغلو هو العقل الفكري لحزب الإخوان الحاكم في تركيا، فإن ذلك يساعد الرجل على القول صراحةً، حيث يمكنه، وبدبلوماسية المثقف، حيث يضطر، إن على العرب والمسلمين، الى أي دين أو مذهب فكري أو سياسي انتموا، التعايش مع فكرة أن التيار الإسلامي السني هو الذي يقود حركة التاريخ اليوم في العالمين العربي والإسلامي. ويدعو الآخرين، ممن هم خارج هذا التيار، الى عدم المعاندة، والى قبول هذه الواقعة التاريخية، ليكون هناك مجال لصفقة يقودها التيار نفسه، ويقدم فيها ضمانات تتيح للآخرين البقاء والعيش في هذا البقعة من الأرض.
طبعاً، ليس في يد أوغلو ما يقدمه سوى مبدأ المواطنة القائم في تركيا، حيث يعتقد كثيرون أن الدولة نجحت في تثبيت قواعد حياة اجتماعية وعلاقات بين الدولة والمواطن، تسمح بتعددية مقبولة، وبحريّات تتيح تفاعلاً سياسياً وفكرياً واجتماعياً. هذا في الحد الأقصى، لكن أوغلو لا يمكنه الإفراط في التفاؤل حيال قدرة المجتمعات العربية الممزقة على إنتاج صيغة مشابهة، سواء في بلدان كبرى كمصر أو سوريا أو السعودية أو العراق، أو حتى في دول صغيرة وغنية مثل إمارات الخليج العربية، بل أكثر من ذلك، هو يعرف، إلا إذا كان يعاني غشاوة، أن الدول ذات التعددية الدينية والطائفية، وحتى الثقافية، والتاريخ المقبول من التعددية والحريات، مثل لبنان، تواجه تحديات غير مسبوقة على صعيد التعايش. وفي لبنان يمكن مراقبة المشهد بقوة، علماً أن دولة صغرى مثل تونس، حيث توجد تعددية سياسية حقيقية، تعاني اليوم عوارض الانتقال من دولة بنظام مستبد الى دولة بنظام وتعددي.
الأمر الآخر الذي يتجاهله أوغلو يتصل بالقضايا الرئيسية التي تهم شعوب المنطقة. صحيح أن الثورات والانتفاضات دلت، بقوة، على التعطش الى حرية فردية وعيش كريم، لكنها أشارت، بقوة أيضاً، إلى أن مكمن الخطر هو في تبعية الحكومات للغرب الاستعماري، المهتم ببقاء إسرائيل وأمنها. ويعرف أوغلو أن التطور الأكثر قوة، خلال العقود الثلاثة الماضية، يكمن أيضاً في كون حركة المقاومة الناجحة في لبنان وفلسطين، كما في العراق، تعكس أهمية الموقف العملاني من إسرائيل، ولا تقف عند مكتسبات لفظية مؤقتة سرعان ما تنهار في وجدان الشعوب، كما هو وضع تركيا في حالة المواجهة مع إسرائيل.
يعني ذلك، ببساطة، أنه إذا كان الوزير التركي يعتقد بأن في إمكانه إغراء العالم العربي بنموذج مدني، أو أكثر تطوراً من الحكم الإسلامي، كما هو قائم في تركيا اليوم، فإنه يتجاهل، لسبب غير معروف، العنصر الأكثر حيوية المتعلق بالهوية الوطنية للعرب والمسلمين، وهو التحرر من الغرب الاستعماري، والتخلص من أداته المباشرة في منطقتنا، وهي اسرائيل.
وبالتالي، إذا كان أوغلو يعتقد أن في إمكانه استخدام الثورات العربية، ونجاحات التيار الإسلامي، لدعوة الآخرين الى قبول واقع سياسي جديد، يكون واهماً. لأن الخطوة الأولى التي تعطي شرعية أخلاقية وسياسية، وحتى دينية، لأي موقف تريده تركيا اليوم، رهن قرار بسيط، بأن تعلن أنقرة رفضها وجود إسرائيل، وتقطع علاقاتها معها، وتعيد رسم علاقاتها مع الغرب الاستعماري وفق هذه السياسة، وإذا لم تكن قادرة على ذلك، فهي غير قادرة على تصور تغييرات، إلا إذا قررت اعتماد النظرية التي ترى الى أوغلو مثقفاً نظرياً جيداً، لكنه سياسي عملي فاشل